
كعبٌ عالٍ

هواكم: منظرٌ غير محبّب، ذاك الذي أبدو عليه وأنا جالس على الكرسي، قدماي لا تصلان إلى الأرض، فأزحف قُرابةَ عشر سنتمترات إلى الأمام، كي تستقرّا، لكنّ ظهري يظلُّ مستندًا على الهواء، فما أن تنفضّ الجلسة، أو ينتهي الدوام حتى أقوم من مكاني متصلّب العضلات.
اعتدت على وضع وسادة خلف ظهري، لكنّي لم أشعر بالراحة قط، مهما يكن، فهذه طقوسي منذ أيام المدرسة، والجامعة أيضًا، لكن بلا وسادة طبعًا. ولا أشكّ البتّة أنّ قِصارَ القامةِ يعانون من مشاكلَ صحيّة في عامودهم الفقري، أو أن أغلبهم أكثر عرضة للإصابة بالدسك من الآخرين.
بحثت في عمرٍ أبكرَ عن أي مساعدٍ قد يفيد في زيادة الطول، طبّيٍّ أو مُستخلَصٍ من الأعشاب وما نحوَ ذلك، لكن أخفقتْ محاولاتي، طرقتُ أبوابَ شبكة النت بحثًا عن عمليّات جراحية للإطالة، وكنت مهووسًا بها لفترة، حتى أيقنت أن تكاليفَها تفوق طاقتي، مهما وفّرت من المال.
لو كان من الّلائق أن أنتعلَ الكعب العالي لفعلت، كم خامرتني هذه الفكرةُ إلى حدٍّ جعلني أنتقي حذاءً نسائيًّا مناسبًا لمقاس قدميّ الصغيرتين نسبيًّا، أنتعله، وأتجوّلُ داخلَ الغرفة، ثمّ أراقب طولي وهيأتي التي أبدو عليها بالحذاء النسائيّ أمام المرآة، أُفتَن بنفسي، رغم أنّي غير فاتن، فعضلاتي التي حرصت على تمرينها تبدو أكثر جاذبية، و"كرشي" المنتفخ الصغير يبدو مشدودًا، ومقبولًا أكثر.
تمنّيت لو أنّي على قدرٍ من الجرأة يخوّلني فعل ذلك على مرأى من الناس، عساها تنطلق صيحةً في مدينتنا الصاخبة. ألعن الفكرة الرعناء التي تدور في ذهني، وأطلق الأمنيات بأن يفعلها الشباب قبلي، فأتماهى مع "الموظة" فيما بعد، المهم ألّا أكون في "بوز المدفع".
فكّرت أن أفصّل حذاءً رجّاليًّا لدى المصنع، وليكن على ارتفاع عشر سانتيمترات باستقامةٍ واحدة، انطلاقًا من مقدّمة القدم ووصولًا إلى الكعب، بطابع رجوليٍّ تام، كي لا يشبّهني أحدٌ بالنّساء إن كان كعبه رفيعًا، ثمّ أرتدي بنطالًا طويلًا يغطي الكعبَ ما أمكن.
أتخيل نفسي أقوم بذلك، لكن سرعان ما أُسكِت جنوني، رجلٌ أربعينيٌّ أنا، محاسبٌ في شركة اتّصالات محترمة، كيف لي أن أغامر بسمعتي! لا.. لا أظنني أفعلها، سوف يشكُّكون برجولتي.
المرور على ذكر العمر يستفزّني، فالنساء لا يلتفتن إلي، يهربن من رجلٍ لا يتعدّى طوله مترًا وأربعين سانتيمتر، ويعتبرن مغازلتي لهنّ وقاحةً وتقليلًا من شأنهن، بينما يرتمين في أحضان زملائي، لو يعرفنَ، فقط، أنّ الرّجل المحروم أكثر تقديرًا للعلاقات، لَـما هربن.
كم تمنيت أن تكون لديّ علاقة جادّة بإحداهن.. علاقةٌ حقيقيّة، أن تحبّني أنثى من كلّ قلبها، وأعيشَ معها طقوس الحبّ والشوق والغيرة، لكن أيّان لي من هذه التفاصيل.
أيقنت من علاقاتي النادرة على مرّ سنوات العمر أن هذا أمرٌ مستحيل، هنّ بصراحة يقرفنَ منّي، وإن حظيتُ بموعدٍ كما أظن، سيكون من أجل أن أدفع الحساب، أيّ حساب: فاتورة غداء في مطعم مكلف، فاتورة ملابس لهنّ وإكسسوارات، حتى أن إحداهنّ جعلتني أسدّد فاتورتيّ الماء والكهرباء خاصّتها، وأخرى كلّفتني فاتورة عقد من ذهب، ولمـّا يحين شوق القبلةِ يفتُرن، يفترن جميعهن، كأنّ حظّي ما زال عالقًا في سماء الفاتورة والفتور.
لم تحبّني فتاة أو امرأة لشخصي، بل لم يقعن في حبّي قط، وكنت كلّما عاكست إحداهنّ في صغري توبّخني، أو تشتمني، أو ربما ترمقني بسخرية، أو تبصق بوجهي، ولمّا تخطّيت العمر القانونيّ للشيطنة تظاهرت بشيء من الوقار. مررت بمواقف محرجة جرحت مشاعري، وكثيرًا ما أُهينت كرامتي، ولم أكن محظوظًا بزواج تقليدي، مهما بدوت أنيقًا، متعلّمًا، أو مؤهّلًا للزواج.
قبل أسبوعين سمعت من زملائي عن شركة أدوية عالميّة شهيرة، أعلنت عن حاجتها لأشخاص لديهم قابلية الخضوع تحت تجارب الأدوية، كي يتبيّنوا آثارها السلبية قبل طرحها في الأسواق، وذلك مقابل أجرٍ معيّن.
كنت مستهترًا أهوجًا لحظتها، ربّما لأنني مللت حياتي الفارغة، وسئمت من قضاء أوقات فراغي في المقاهي، وفي النوادي الرّياضيّة. فانضممت إلى الأسماء الموجودة، استعدادًا للتحوّل إلى فأر تجارب. أعرف أنه كان بإمكاني فعل أي شيء آخر، وأن هذا الجنون غير مبرّر، لكنّي فضّلت خوض التجربة.
ابتدأتُ برنامجي مع الشركة، واليوم هو أول يوم لي، تناولت حبّتين من دواء تمّ تطويره مؤخّرًا، ثمّ جلست في غرفة الاستراحة أشغل نفسي بأي شيء: بمراقبة المراجعين (البنات تحديدًا)، أو بالهاتف، أو بتصفّح مجلّات موضوعة بشكل مُنظَّمٍ فوق طاولة تعلوها واجهة من زجاج، وتحملها أقدامٌ خشبيّة مذهّبة.
تعاطفت مع فتاة ترفع بكلتا يديها أكياسًا ممتلئة، وتضمّ بعضدها ملفًّا يشبه ملفّي، مما جعلني استدلُّ على أنها فأرة تجارب مثلي، عندما حان دورها لتسجيل الأوراق، حاولتْ أن تضع الأكياس على الأرض، كي تحرّر إحدى يديها، فسقط بعضٌ من أغراضها، قمتُ بدافع الشهامة أساعدها، والتقطت الأوراق، وما تبعثر من مستحضرات تجميل فرّت من الأكياس، فشكرتني وهي ترتبها فور تقديمها لموظفة الاستقبال.
عرضتُ عليها أن أرافقها كي أدلّها على الإجراءات، بدت في حالٍ بالغةٍ من التّعب، فوافقتْ، وفيما كنّا نمضي بالمعاملة والفحوصات، كنت أحمل عنها الأكياس جميعها، متسائلًا عن محتوياتها، فأخبرتني أنها تبيع مستحضرات التجميل مُتجوِّلةً بين المحلّات، حتى اُعتُمِدت بضاعتها بسبب جودتها.
تأمّلتُ نعومةَ تقاسيمها، بل تفاصيلِها كلّها، وتنبّهت إلى أنّي أطولُ منها بقليل، حتى أن الأمر حدا بي للنظر إلى حذائها أكثر من مرة، ذاك الذي لم يكن بكعبٍ عالٍ كما تفعل الفتيات كي يُبرزنَ أجسادهن، وأظنّ أن طبيعة عملها تحتّم عليها ذلك.
استأذنتُ حينما آنَ موعدُ فحوصاتي، وقبل أن أبتعد اقترحتُ عليها أن نشرب القهوة في «كافيه» قُبالةَ الشركة، فوافقت والخجل بادٍ في حمرةِ خدّيها.
مرّت الفحوصات ببطء فيما كنت أنتظر لحظةَ لقائها، أستدعي تقاسيمَها الناعمة، ثمّ جمعتنا طاولة بوجهٍ من زجاج، تحملها أقدام معدنية ذهبيّة، في «كافيه» هادئ. عمّا قليل رحتُ أغسل وجهي من حرارة الجو، وأفرك يديّ بالصّابون تحت الماء، بعدما صارتا دبقتين من التعرّق، أتذكّر قولَها: "سمارك حلو"، الذي لم أسمعه من أي فتاة من قبل. وحينما عدت وجدت النادلَ يُقدّم إليها ما تبقّى من مال بعدما دفعتْ الحسابَ في غيابي.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا نتحمل مسؤولية الأراء الورادة بهذه التعليقات
لا يوجد تعليقات في الوقت الحالي!
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا نتحمل مسؤولية الأراء الورادة بهذه التعليقات