
كيف تحول صراع العروش إلى صراع للانتهاء في أسرع وقت ممكن

منى هدهد
لو لم تكن شاهدت الموسم الثامن من المسلسل لا تكمل قراءة هذا المقال لاحتوائه على حرق للأحداث.
باقي أقل من أسبوع على عرض الحلقة الأخيرة من “صراع العروش” لتنتهي معها رحلة طويلة استمرت لأكثر من ثمان سنوات. تابع الملايين لسنوات تلك الملحمة المذهلة التي مثّلت طفرة في تاريخ المسلسلات التلفزيونية، سواء من حيث ضخامة الإنتاج غير المسبوق في التلفزيون، أو الأحداث التي أصبحت تُدرّس في معاهد الدراما باعتبارها نموذجًا مُجددِّا يُحتذى به، كإعدام “نيد ستارك” في الموسم الأول، أو “الريد ويدينج/العُرس الأحمر”.
لكن رغم متابعة الملايين حول العالم للمسلسل، وكونه أشهر وأضخم مسلسل معروض على الساحة حاليًا، واشتعال آلاف الصفحات على صفحات التواصل الاجتماعي بنقاشات وسجالات ونظريات حول الأحداث والشخصيات، وانتظارنا لعامين طويلين لعرض الموسم الأخير من المسلسل، جاء الموسم الأخير الذي عُرض منه خمس حلقات حتى الآن صادمًا ومخيبًا لآمال الكثيرين، وأصبحت حلقاته هي الحلقات الأقل تقييمًا في تاريخ المسلسل كله، وتنحدر أكثر مع كل حلقة جديدة تُعرض.
ما سبب هذا التحول المفاجئ إذًا؟ ولماذا يتزايد إحباط وخيبة أمل المشاهدين مع كل حلقة تمُر؟
لو أردنا فهم سبب ذلك، يجب أن نعود للسبب الأصلي الذي دفع أغلب المشاهدين لحب “صراع العروش” في المقام الأول.
تميّز “جيم أوف ثرونز” منذ البداية بالحبكة القوية والشخصيات المرسومة بحِرفية ودقة شديدة، وتطور الأحداث وبناء الشخصيات عبر الاهتمام الشديد بالتفاصيل، والغرس والتمهيد للأحداث التالية ببراعة وبشكل مدروس بدقة، بالإضافة للحوارات القوية جدًا بين الشخصيات. لم يكن مجرد مسلسل مغامرة أو مفاجآت أو أكشن، على النقيض، لو نظرت للمواسم الخمسة الأولى ستجد أن أغلبها يدور في الحوارات والمؤامرات والأحداث التي تقع للشخصيات وتُسهم في بنائها وتطورها، مع حدث واحد كبير في الحلقة التاسعة من كل موسم يتم التمهيد له طوال الموسم بل والمواسم السابقة أيضًا. كان المسلسل يرفع شعار “الرحلة أهم من الوجهة”، وكل تجربة تمر بها وكل خبرة تكتسبها ستساعدك على الوصول لما يجب أن تصبح عليه في النهاية، لا يهم سرعة الوصول، المهم كيف تصل.
لذلك تابع الكثيرون بشغف رحلة تطور شخصيات المسلسل، بعضهم بدأوا بحبه ثم كرهوه مع مرور الوقت، وبعضها كرهوه كراهية عمياء في البداية ثم هتفوا تشجيعًا له أو بكوا عليه في النهاية. لكن القاسم المشترك بين كل شخصيات المسلسل بلا استثناء هو أنك لن تجد شخصية أحادية واحدة، كلها شخصيات رمادية بها الخير والشر بدرجات متفاوتة، حتى الشخصيات الشريرة، لم تكن شخصيات مسطحة ثنائية الأبعاد، وإنما شخصيات ثلاثية الأبعاد مرسومة بحرفية شديدة تجعلك تُعجب بها حتى وإن كرهت تصرفاتها.
متى بدأ التدهور إذًا؟ كان الموسم الرابع هو الأقوى في المسلسل، وبدأ الخامس بداية أقل، وإن كان انتهى بخاتمة قوية، ولكن مع عدم إنهاء جورج ر. ر. مارتن للروايتين الباقيتين، انفصل خط سير المسلسل من بعد الموسم الخامس عن أحداث الروايات، وبدأت آثار هذا في الظهور في الموسم السادس، حيث جاء أقل من المواسم السابقة من حيث الحبكة أو الحوارات، وإن كان عوضها بلحظات عظيمة “كمعركة أولاد الحرام” أو تفجير سيرسي لمعبد عقيدة السبعة. أعلنت بعدها قناة HBO المُنتجة للمسلسل أن الموسم الثامن سيكون الأخير، وأن الموسمين السابع والثامن سيتم ضغط حلقاتهما، بحيث أصبح عدد حلقات الموسم السابع 7 حلقات، والموسم الثامن 6 حلقات، مقارنة بـ 10 حلقات للموسم في المواسم الماضية، مع إطالة مدة عرض الحلقة.
بدأ الانحدار مع هذا التكثيف غير المبرر للحلقات والأحداث، وظهر أثر ذلك بوضوح في الموسم السابع، حيث أصبحت التنقلات تتم بسرعة شديدة تليق بطائرات وليس سُفن أو مشاة. وبدأت ثغرات الحبكة في البروز أكثر، وأصبح الأبطال يتخذون قرارات غبية غير متسقة مع شخصياتهم في المواسم السابقة، وليس لها أي تبرير منطقي سوى أن “المخرج عايز كده” ولدفع الحبكة في اتجاه محدد يريده الكُتاب وحسب. ظهر هذا بشدة في الرحلة العبثية التي ذهب فيها جون ورفاقه وراء الجدار لجلب أحد “الوايتس” لإقناع سيرسي، ثم حصار النايت كينج لهم دون أي مبرر سوى انتظار “جندري” الذي جرى أسرع من “يوسين بولت” ليصل للسور ويرسل رسالة في طائرة نفاثة.. عذرًا.. مع غراب.. لدينيريس في أقصى الجنوب في دراجون ستون، لتصل لهم في أقصى الشمال بتنانينها، وكل هذا خلال أقل من يوم ونصف، وليس له أي هدف سوى أن يتمكن “النايت كينج” من قتل تنين وإحيائه وحسب كي يستخدمه في هدم السور. لا يهم مدى منطقية ما حدث ولا كيف حدث، المهم أن يحصل النايت كينج على التنين وليذهب المنطق للجحيم.
وإن كان الوضع سيئًا في الموسم السابع، فقد أصبح شديد السوء في الموسم الثامن.
لم يعد المسلسل مهتمًا بالحبكة ولا بالبناء الدرامي ولا بالخيارات المنطقية المتسقة مع طبيعة الشخصيات، فتيريون تحوّل من أذكى الشخصيات في المسلسل إلى شخصية عديمة الفائدة تتخذ قرارات غبية طوال الوقت بدعوى حسن النية.
شخصية “يورون جريجوي” التي ظهرت في الموسم السادس افتقدت للعمق المميز لشخصيات المسلسل وأصبحت أقرب لشخصية شريرة كرتونية في أفلام ديزني.
حتى سيرسي نفسها تحولت في الموسم الثامن لشخصية غبية تصرفاتها غير منطقية ولا متسقة مع كل ما فعلته سابقًا.
وجون سنو أصبح مجرد إمّعة لدينيريس، وشديد السلبية تجاهها.
الحوارات بين دينيريس وسانسا رغم أنها مضحكة إلا أنها أقرب لحوار “ضُرتين” في مسلسل عربي منها إلى شخصيات في “صراع العروش”. هل يذكر أحد الحوارات المشابهة بين مارجوري وسيرسي أو بين سيرسي وليدي أولينا؟ نعم، المفترض بعد مشاهدة هذه الحوارات أن نتقبل لعب الأطفال الجاري بين دينيريس وسانسا.
والأسوأ من كل هؤلاء هو ما فعلوه في شخصية “جايمي لانيستر”، شخصية جايمي لانيستر من الشخصيات شديدة التعقيد، التي بدأ الناس المسلسل بكرهها، ثم التعاطف معها ثم حبها، وتشجيعها للهروب من سيطرة سيرسي وطبيعة علاقتهم السامة التي تُخرج أسوأ ما في جايمي. رحلة جايمي وثيون جريجوي من أفضل رحلات تطور الشخصيات في المسلسل، وبينما حصل ثيون على نهاية يستحقها بعد كل ما مر به، هدم الكتاب شخصية جايمي تمامًا بإعادتها لنقطة الصفر، وإلغاء كل ما مر به من تطورات ونضج وتغير على مدار المواسم السبع الماضية. ولم يكتفوا بهذا بل وجهوا ضربة قاتلة لنقطة التحول الرئيسية في مشاعر المشاهدين تجاه جايمي عندما حكى عن قتله للملك المجنون الذي أراد حرق كينجز لاندينج بمن فيها، دافعًا جايمي للحنث بقسمه وقتل ملكه كي ينقذ الأبرياء لأن شرفه منعه من الوقوف ساكنًا أمام هذا الجنون. لكنهم هدموا كل هذا في لحظة واحدة في الحلقة الخامسة من الموسم الثامن عندما أخبر جايمي تيريون أنه لا يبالي بالأبرياء في كينجز لاندينج أو بحرق دينريس لهم، وأعادوه لنقطة الصفر بين يديّ سيرسي ليموتا معًا في مشهد أقرب لفيلم “حبيبي دائمًا” منه لصراع العروش.
بالإضافة للعديد من المشاهد اللزجة المحشورة حشرًا التي تُشعرك أنك تشاهد “الجريء والجميلات” وليس “جيم أوف ثرونز”.
هذا على مستوى الشخصيات، ولو نحينا تطور الشخصيات الذي تم تدميره جانبًا، وحاولنا التماس العذر للكُتاب لأنهم مضغوطين في الوقت ومهتمين أكثر بالتركيز على المعارك المهمة التي ستجري هذا الموسم، سنجد أن حتى هذا فشلوا فيه.
معركة وينترفيل، المعركة المنتظرة مع الوايت ووكرز.. الخطر الزاحف من الشمال منذ سبع سنوات، انتهت بسرعة شديدة وفي حلقة واحدة. أنا على عكس الكثيرين من المعجبين بفكرة قتل آريا للنايت كينج، وأراها منطقية حتى. ولكن المعركة كانت مظلمة في مشاهد كثيرة لدرجة أنك لا تفهم ما يجري على الشاشة أحيانًا. الاهتمام بتقديم مشهد مثير بصريًا على حساب منطق الأحداث. مشهد هجوم الدوثراكي بسيوف مشتعلة ثم انطفاء سيوفهم وتوقف صرخاتهم كان مبهرًا على المستوى البصري، ولكن ما فائدته فعليًا على المستوى العسكري؟ هذا أغبى قرار يمكن اتخاذه في معركة من هذا النوع.. ما الجدوى من هجوم الدوثراكي بأسلحة غير قادرة على هزيمة الموتى؟ لقد ذكرت بالحرف في الحلقة السابقة أن أي اشتباك مباشر مع جيش الموتى نتيجته هي الخسارة، لماذا تبدأ بهجوم مباشر؟ أنت تعلم أن قتل الوايت ووكرز يؤدي لموت الوايتس الذين أحيوهم، لماذا لم تضع خطة لمهاجمة الوايت ووكرز من الخلف؟ لماذا توقف جنودك أمام الخنادق وليس خلفها، ولماذا الخنادق قريبة جدًا من القلعة وضيقة بهذا الشكل؟ ألم تتمكنوا من الاستعانة بخبير عسكري واحد يخبركم بكيف تتم المعارك في القرون الوسطى؟
لكنهم اختاروا تقديم معركة جيدة شكلًا وغبية مضمونًا، وإنهائها بسرعة شديدة لدرجة تجعلك تتساءل بعد انتهائها “هو خلاص كده؟” مع شعور بعدم الرضا و”الكروتة”.
نفس الغباء يستمر في الحلقة الرابعة، حيث تشعر أنها أقرب لحلقتين منفصلتين تم دمجهما في حلقة واحدة. الأحداث تقع بسرعة شديدة وبدون مبرر منطقي. كقتل التنين “رايجال” بثلاثة حِربات كلها أصابت هدفها الطائر في الهواء بسهولة شديدة، بينما أكثر من 20 حربة أخطأوا دروجون تمامًا ولم يصيبوه بخدش واحد. كل هذا حتى تفقد دينيريس أحد تنانينها وميساندي بطريقة غير مبررة أو منطقية على الإطلاق كتمهيد لجنونها.
طبعا يُفترض أن نتقبل أن في الـ 10 دقائق الأخيرة من الحلقة الرابعة وأول 20 دقائق من الحلقة الخامسة جُنت دينيريس وتحولت من محطمة الأغلال ومحررة العبيد التي حبست تنانينها لأنهم آذوا طفلًا إلى ملكة مجنونة حرقت المدينة بمن فيها عن بكرة أبيها.
أنا غير معترضة على جنون دينيريس بالمناسبة، على العكس أراها نهاية منطقية لشخصيتها وكان لها بعض الدلالات سابقًا، ولكن ليس من المنطقي أن أصدق أن الشخصية التي حتى بعد موت تنينها الثاني كانت مستعدة للتفاوض فقدت عقلها بين ليلة وضحاها أو في ثلاثة أيام لو شئنا الدقة.. حتى الملك المجنون نفسه فقد عقله تدريجيًا على مدار سنوات طويلة وليس فجأة بهذا الشكل.
لكن ككل شيء في هذا الموسم، كروتوا الأحداث، وأصابوها بالجنون دون تمهيد كاف ودون أن نرى تدهورها إلا في مشهد واحد هزيل وفي أقل من نصف ساعة تحولت من ملكة لا ترغب في قتل الأبرياء وإن كانت سريعة الغضب أحيانًا، إلى ملكة مجنونة تحرق شوارع كينجز لاندينج بعد استسلام أهلها، وليس هذا وحسب، بل إنها تحرق الشارع المتواجد فيه جنودها وجيش الشمال، بمن فيهم جراي وورم وجون سنو. لو كانت هاجمت الريد كيب مقر سيرسي لكان هذا منطقيًا، ولكن تدمير المدينة ليس له أي مبرر منطقي.. لوجستيًا على الأقل، لأنك تحرقين جيشك قبل الأبرياء.
لكن كما حدث في معركة وينترفيل، اختاروا تقديم صورة بصرية مذهلة -وأعترف بهذا، التصوير والمشاهد كانوا خرافيين من الناحية البصرية- على حساب المنطق والشخصيات.
كل هذه الأحداث كان يمكن أن تصبح أروع وتُستقبَل استقبالاً أفضل بكثير لو لم يتعجلوا الأمور، ويمهدوا لها جيدًا ويحترموا تاريخ المسلسل وكل الجهد المبذول للوصول لتلك اللحظة، ولكن يوجد رغبة عجيبة في إنهاء كل شيء في أقصر وقت ممكن ودون تمهيد، والانتقال من النقطة أ للنقطة ب فورًا ودون تمهيد، في مسلسل كانت مواسمه الأولى كلها تركز على الرحلة أكثر من الوجهة. ليس من المفاجئ إذًا أنهم عندما أخذوا طريقًا مختصرًا وجدوا أنفسهم أمام حائط سد من التعليقات السلبية والتقييمات المنخفضة والاستياء الشديد من المشاهدين.
كان بين أيديهم عملًا ملحميًا شديد التعقيد ولكنهم حولوه بالاستعجال والتكثيف والحوارات الركيكة إلى مسلسل أكشن عادي جدًا لا يختلف عن أي مسلسل آخر متوسط المستوى.
آمل أن تكون الحلقة الأخيرة أفضل من هذا، وأن تقدم على الأقل نهاية جيدة تليق بهذا العمل الرائع.
ما رأيكم في الموسم الأخير حتى الآن؟ شاركنا برأيك في التعليقات.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا نتحمل مسؤولية الأراء الورادة بهذه التعليقات
لا يوجد تعليقات في الوقت الحالي!
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا نتحمل مسؤولية الأراء الورادة بهذه التعليقات