عراقيون غير معترف بـ "عراقيتهم"

تابعنا على:   19:16 2019-05-19

"رفضت الزواج منه، فتهجم على منزل أمي، وشدني من شعري وأخذني إلى بيته عنوة، في العاشرة ليلاً، وتزوجني قسراً. كنت زوجته الرابعة، ثلاث مسلمات وسبية أيزيدية".

بهذه الكلمات تبدأ إسراء (24 عاماً) سرد قصتها. كنت قد التقيتها في العاصمة العراقية بغداد قبل أيام قليلة، بعدما لاذت إليها هاربة من مدينة القائم، آتية من سجون مدينتي الرَّقة والبوكمال السوريتين في العام 2016.

زواج الاغتصاب نتج عنه طفلتها التي تعيش معها اليوم، في ترحال مستمر ما بين أحياء بغداد، في ظل عدم الأمان الذي تعيشه، هرباً من عشيرة أهدرت دمها بسبب زواجها من قيادي في تنظيم "داعش" في القائم، ثم اعتقالها من قبل التنظيم، وسجنها سنة كاملة بعد إعدام شقيقتها، إثر عثور "داعش" على سلاح يعود إلى خالها، الذي كان منتمياً إلى مجالس الصحوة العراقية، التي تشكلت في العام 2006 لمواجهة تنظيم "القاعدة".

تقول إسراء "دفعت الثمن ثلاث مرات، زواجي القسري ثم السجن. أما اليوم فأقاربي يريدون قتلنا، أنا وطفلتي، ونحن نعيش بلا أوراق ثبوتية رسمية. لقد خسرتها خلال هربي من القائم قبل ثلاث سنوات".

تعيش إسراء مع عاهة مستديمة في ظهرها. إذ تسبب الضرب المبرح الذي تعرضت له في سجون الرقة بكسر في بعض فقراتها وضغط على مفاصل الرقبة والساق.

"نساء داعش"

انتهت الحرب العسكرية منذ سنتين، وآلاف النساء والأطفال يعيشون اليوم في المخيمات والمدن العراقية، التي عانت الصراع المسلح، بلا أوراق ثبوتية أو هويات رسمية. فالحكومة العراقية تأبى الاعتراف بعراقيتهم. فعلى مدى سنوات ثلاث، تمت زيجات وطلاقات بعقود "المحاكم الشرعية" التابعة لـ "داعش" في محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين، إبان سيطرة التنظيم عليها. عقود لا تعترف المحاكم العراقية بها وتعتبرها باطلة رسمياً. ما يجعل إثبات زواج النساء العراقيات، وتثبيت نسب أطفالهن شبه مستحيل، في ظل إرادة اجتماعية لعزل "عائلات داعش"، وعدم دمجها في المجتمع، وهذا ما يقلق المنظمات العاملة في المجال الإنساني.

وفقاً لإحصاءات غير رسمية لمنظمات إنسانية، يبلغ عدد النازحين في مخيم الجدعة، جنوب الموصل، 50 ألف شخص، تشكل النساء منهم حوالي 60 في المئة، وهن بلا أوراق ثبوتية. في حين يمكث 15 ألف طفل في المخيم نفسه بلا هويات رسمية.

"هم فعلياً لا يحصلون على الخدمات الصحية والتعليمية، ومسألة أننا نعمل على إعادة دمج عائلات داعش في المجتمع محض كذبة". هذا ما يقوله فوزي ع.، الذي يعمل في قسم الحماية للنساء والأطفال في مخيمات تابعة لمدينة الموصل.

ويشير فوزي إلى أن "عائلات داعش لا تملك هويات، لأن بعض أفرادها قاموا بإتلافها خلال عمليات التحرير كي لا يتم التعرف عليهم. لكن القسم الأكبر هم من المتزوجين والمولودين خلال سيطرة التنظيم على مناطقهم".

ويقول القاضي العراقي هادي عزيز إن "زوجة الداعشي هي عراقية. وبموجب الدستور ابنها يصبح عراقياً، فالقانون العراقي مواده واضحة في حالة الإرهابي المتزوج من امرأة عراقية على الشريعة الإسلامية".

يضيف "القانون العراقي يجيز للمرأة إقامة دعوى لتصديق الزواج وإثبات نسب أطفالها، سواء أكان الرجل موجوداً أو غائباً. لكن توجد إرادة سياسية ومجتمعية لعزل عائلات داعش. وهذا ما سيجعل هذه الفئة متاحة لمشاريع الجريمة والبغاء والاتجار بالبشر والتسول".

العار الاجتماعي

إقامة دعوى تثبيت الزواج أو اثبات النسب، تستوجب غالباً إحضار الشهود من محل إقامة صاحب الدعوى، وغالباً ما يكون الشهود من الجيران والأقارب الذين باتوا يرفضون مساعدة "عائلات داعش"، وتقديم الشهادة معها. وهذا يجعل الدعوى تتوقف في بداياتها.

يشعر المجتمع العراقي أنه تأذى كثيراً من وجود "داعش"، ما يجعله ينظر إلى عائلات عناصره نظرة انتقامية ودونية، ويكتفي بتسمية عائلاتهم بـ "زوجة وابن الداعشي".

تزوجت سبأ (22 عاماً) في الموصل. وكان زوجها طالباً جامعياً عندما انضم إلى صفوف التنظيم. تقول "أهل زوجي يشعرون بالعار ولا يريدون الاعتراف بابنهم الداعشي، على الرغم من أنهم كانوا يعملون مع التنظيم. والنتيجة طفلتي بلا هوية، وأنا لا أستطيع الحصول على حكم بالطلاق".

تنظر إسراء إلى طفلتها، التي تتحرك حولنا من دون هوادة. متشابهتان في الملامح والبشرة السمراء وفي العينين السوداوتين، بالإضافة إلى شامة خجولة تربض فوق الشفة العليا.

تمسح الأم دموعها وتكمل حديثها "بحثت عن أهل زوجي ووجدتهم في الأنبار بعد التحرير. لكن جد الطفلة طردني ورفض الاعتراف بها أمام المحكمة".

مخاوف المحامين

تقول المحامية غيداء س.، التي تعمل على قضايا النساء المتزوجات من عناصر "داعش"، إن "الأوامر القضائية لا توجد فيها معوقات للتفريق أو الزواج أو النسب لزوجات داعش، لكن التوقف يحصل عند إحالة العائلات إلى جهاز الاستخبارات للتدقيق والتحقيق".

تضيف "نعمل الآن على قضايا التفريق، وهي مكلفة مادياً. فالزوجة تضطر إلى توكيل محام متخصص في الأحوال الشخصية، وآخر في القضايا الجنائية يكون معها عند التحقيق الأمني في الاستخبارات، وتصل كلفة القضية إلى ما بين 2000 إلى 10 آلاف دولار".

الجدير بالذكر أن المحاكم العراقية باتت تسمح بالتفريق لزوجة عنصر "داعش"، منذ العام الماضي، بعدما اعتمدت على قرار مجلس قيادة الثورة المنحل، الصادر في العام 1985، الذي "يسمح للعراقية بطلب التفريق، في حال هروب زوجها مع العدو". لكن حتى هذا القرار يسمح بالتفريق للنساء اللواتي لديهن عقود زواج صادرة عن المحاكم العراقية حصراً.

تقول غيداء إنها تعرضت للمساءلة من قبل الاستخبارات في دائرة الأحوال المدنية، إذ "وجهوا إلي تهمة أنني أحاول الدفاع عن زوجة داعشي مطلوب. على إثر ذلك، تركت العمل في هذه القضايا".

محكمة الأحوال الشخصية في الموصل

ويشير فوزي، العامل بمجال الحماية، إلى أن "الجهة الحكومية غير متعاونة معنا كمنظمة تعمل في مجال الدعم القانوني. لدينا محامية صدر أمر بالقبض عليها ثلاث مرات لعملها على دعم هذه الفئة".

يضيف "لا يمكن للحكومة العراقية التعامل مع عائلات داعش كأنها غير موجودة، وإلا فأننا مقبلون على مشكلات مجتمعية أكبر مستقبلاً. لذا، يتوجب إيجاد آلية حلول آنية".

الاستغلال الجنسي أبرز المشكلات

النساء والفتيات هن أكثر الفئات المتضررة من عدم حصولهن على الأوراق الثبوتية والعزل الاجتماعي. ذلك أن هذه المشكلة أدت إلى ارتفاع حالات زواج القاصرات منهن خارج المحكمة، إضافة إلى الاستغلال الجنسي، وأحياناً كثيرة تعرضهن للابتزاز المالي والسرقة. كما هو حال سلمى (13 عاماً)، التي انضم والدها إلى التنظيم، ثم قتل خلال العمليات العسكرية في الموصل، فزُوّجت مرتين مقابل 100 دولار، لرجلين أكبر منها عمراً بثلاثة أضعاف على الأقل.

كانت سلمى تقف بالقرب من خيمتها، وقالت "تزوجت الأسبوع الماضي عند شيخ الجامع. طلقني زوجي اليوم، وأعادني إلى المخيم قائلاً بأن لا حاجة له بي بعد الآن".

أما سبأ فتقول "سرقني المحامي بعدما كنت قد دفعت له مبلغاً كبيراً، ليرفع دعوى تثبيت زواجي في المحكمة. أغلق هاتفه ولم أجده بعدها، وأخشى من تقديم شكوى ضده بالتأكيد".

قانون "الناجيات الأيزيديات"

أطلقت الحكومة العراقية مشروع قانون "الناجيات الأيزيديات"، مطلع أبريل (نيسان) الماضي، بهدف تعويض الناجيات الأيزيديات من الاختطاف على أيدي عناصر "داعش" مادياً ومعنوياً.

القانون تجاهل بشكل واضح مسألة إنهاء أزمة أطفال الأيزيديات المولودين من عناصر "داعش"، بل فتح المجال لجعل أفراد هذه الفئة الهشة أمام معضلة قانونية مستقبلية عند محاولتهم الحصول على أوراق ثبوتية. فهو لا يتيح للطفل حرية اختيار ديانته، فيما لو أراد ذلك عند البلوغ. بل اعتبره مسلماً تبعاً لديانة الأب، حتى لو كان مُغتصباً. في المقابل، لن تقبله الديانة الأيزيدية (ديانة مغلقة) أيزيدياً، فيما لو أرادت الأم الاحتفاظ بطفلها.

وتقول الناشطة العراقية هناء إدوار إن "القانون أهمل العلاقة الإنسانية بين الأمهات وأطفالهن، إضافة إلى أنه تحاشى التطرق إلى لفظة العنف الجنسي أو الاغتصاب الذي تعرضت له النساء الأيزيديات".

تضيف "كان الأولى بالقانون أن يدين العنف الجنسي وينبذه كي لا يتكرر مرة أخرى، ولمنع أي تبريرات للاعتداءات التي ما تزال تمارس ضد النساء في المجتمع العراقي".

اليوم وبعد تجربة الصراع الطويلة مع التطرف في العراق، يتحتم على الدولة العراقية تفكيك القنبلة الموقوتة لتشكيل جيل جديد يتعامل مع التطرف والإرهاب، من خلال عدم نكران وجود زوجات وأطفال عناصر "داعش"، ومحاولة إعادة تأهيلهم، بما يساعد على تجفيف منابع الإرهاب.

المصدر: اندبندنت عربية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا نتحمل مسؤولية الأراء الورادة بهذه التعليقات

لا يوجد تعليقات في الوقت الحالي!

أضف تعليقك

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا نتحمل مسؤولية الأراء الورادة بهذه التعليقات