
من يوميات القدس في عصر المماليك.. كيف توفرت المياه؟

بركة النارنج في الأقصى بمحاذاة سبيل قاسم باشا أنشأها السلطان المملوكي الأشرف برسباي (مواقع إلكترونية)
في كتابه "التعريف بالمصطلح الشريف" العائد إلى القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي يحفظ المؤرخ ابن فضل الله العمري الوصية التي كانت تُعطى لنائب القدس عند تقلده منصبه من سلطان المماليك في القاهرة، وأهمية هذا المنصب، لا سيما الحرمين الشريفين القدس والخليل تشبيها بالحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
يقول "وليعلم أن نظره (ولايته) في هذا البيت المقدس نظير نظره في البيت المحرم، وأن تذممه بضريح الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام مثل تذممه بقبر ابنه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه إذا أم القدس كان تشبيها بقصد مكة إذا يمم، وإذا زم المطايا إلى عين سلوان كان كمن زم إلى زمزم، وإذا زار بلد الخليل كان مثل من زار طيبة، وإذا علا نُشزا من جبال الأرض المقدسة كان كأنما علا جبال الحجاز، فليباشر هذا النظر بعين لا تمل من النظر، ولا تخل بمصالح يُوفي بها النذر من نذر، وليتعهد هذين الحرمين الشريفينِ متعهدا لأوقافهما تعهد المطر".
وإدراكا منهم للأهمية الدينية لمدينة القدس الشريف، اهتم جل أمراء المماليك بتقديم الخدمات العامة، ووقف الأوقاف النافعة، وتحقيق مقتضيات العدل والقانون، ومعرفة حق العلماء في المدينة المشرفة، فامتازت هذه المدينة في عصر المماليك بكثرة المنشآت الاجتماعية وتنوعها، لا سيما المستشفيات والحمامات العامة والأسبلة.
والأسبلة جمع سبيل، وهو المكان في الميادين العامة وعلى رأس الطرقات في القدس مخصص لتيسير مياه الشرب على القاطنين والعابرين، لمد المدينة بحاجتها من مياه الشرب، ولما عرف عنها من قلة المياه، وعدم وجود أنهار بها، فضلا عما كان يعانيه الناس في بيت المقدس بسبب قلة الأمطار.
نظام أثري لتوفير المياه في القدس اكتشف حديثا (مواقع التواصل الاجتماعي)
ظلت عناية سلاطين المماليك ونوابهم بمدينة القدس متواصلة، ويمكن إيراد مثالين على هذه العناية، الأول في بداية عصر دولة المماليك في القرن الثالث عشر الميلادي، والثاني في نهاية العصر أواخر القرن الخامس عشر الميلادي.
وفي كتابه "الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر" يروي ابن عبد الظاهر في ذكره لحوادث سنة 666هـ/1267م أيام السلطان الظاهر بيبرس أنه ورد كتاب قاضي القدس بأن الماء انتزح من بئر السقاية، وعظمت مشقة الناس فنزل رجل إلى البئر، وشاهد قناة مسدودة من زمن بختنصر الذي هدم بيت المقدس وأسر اليهود إلى العراق. فأخذ الأمير علاء الدين الركني والي المدينة البنائين وكشف القناة السليمانية ومشوا فيها تحت الأرض إلى الجبل الذي تحت الصخرة المقدسة، فوجدوا بابا مقنطرا ففتحوه فخرجت عين ماء كادت تغرقهم.
كما يروي مؤرخ القدس في عصر المماليك مجير الدين العليمي واقعة حدثت عام 888هـ/1483م كان معاصرا لها وشاهدا عليها، وتتعلق بمرسوم جاء من السلطان قايتباي من القاهرة إلى أمير القدس ونائبها قانصوه اليحياوي بتطهير وتوسيع قناة العروب، وكانت إحدى القنوات التي تمد المدينة بالمياه من خارجها.
يقول "وفيها ورد المرسوم الشريف إلى الأمير قانصوه اليحياوي بعمارة قناة العروب، وعمارة بكرة المرجيع، وجهز له السلطان من الخزائن الشريفة في القاهرة خمسة آلاف دينار، منها ألف دينار نفقة للأمير قانصوه، وأربعة آلاف دينار للعمارة، فتوجه في عاشر صفر للعمارة وصحبته مئتا فاعل (عامل)، ونصب مخيمه، وشرع في العمارة إلى أن أكملها، وتوجه إليه أعيان بيت المقدس وأكابرها، وكل من توجه إليه يصحب معه شيئا من أنواع المأكول كالعسل والسمن والغنم وغير ذلك".
بركة مقبرة مأمن الله من مشاريع تجميع المياه لخدمة سكان القدس (مواقع التواصل الاجتماعي)
ويروي العليمي أن الدولة المملوكية سعت تيسيرا على الناس في القدس إلى توسيع واحدة من أهم القنوات المائية القادمة من خارجها، واشترك في هذه التوسعة مئتي عامل بإشراف من والي المدينة الأمير المملوكي، ونظرا لهذه الأهمية الاقتصادية والحياتية للمدينة، فقد ساهم أهلها بمساعداتهم العينية والمادية والمعنوية للأمير وعماله كما روى مؤرخ القدس في تلك الحقبة العليمي.
اهتم أمراء وسلاطين المماليك أيضا بترميم وتجديد الأسبلة القديمة التي بُنيت قبل عصرهم في بيت المقدس، فجدد السلطان الأشرف برسباي سبيل شعلان، وهو السبيل الذي بناه الملك عيسى الأيوبي ملك الشام سنة 613هـ/1216م. كذلك الحال لسبيل علاء الدين البصير الذي جُدّدت عمارته وتوسعته بواسطة نائب القدس الأمير قبجا الحسامي في عصر السلطان برسباي أيضا سنة 839هـ/1216م.
ومن أهم الأسبلة التي استحدثت في مدينة بيت المقدس في ذلك العصر ما بني في ولاية السلطان الأشرف إينال سنة 860هـ/1455م وكان ولا يزال مكانه بين المطهرة ومسجد الصخرة، وهو معروف إلى اليوم باسم سبيل قايتباي، لأن السلطان قايتباي جدّده بعد ذلك في عصره، وهو واحد من أروع وأجمل الأسبلة المملوكية حتى اليوم.
ويصف العليمي هذا السبيل بأنه داخل المسجد الأقصى "فوق البئر المقابل لدرج الصخرة الغربي، وكان قديما على البئر المذكور قبة مبنية بالأحجار كغيره من الآبار الموجودة بالمسجد، فأزيلت تلك القبة، وبُني السبيل المستجد، وفُرش أرضه بالرخام وصار في هيئة لطيفة".
سبيل قايتباي أحد أجمل الأسبلة في الأقصى من العهد المملوكي
وهذا السبيل يعتبر مثالا لبقية الأسبلة في بيت المقدس، والنموذج الهندسي الذي أقيمت عليه باقي الأسبلة، فهو يحتوي على طابقين، الأول عبارة عن بئر محفورة في الأرض لتخزين مياه الأمطار يعلوها سقف من الرخام أو الحجر، أما الطابق الثاني فيرتفع عن سطح الأرض حوالي متر، وتوجد بها المزملة لتوزيع الماء على الراغبين فيه.
ويقوم المزملاتي برفع الماء من البئر بواسطة قنوات تجري تحت البلاط المصنوع من الحجر الصلد، وينتهي الماء إلى فتحات مُعدّة لرفع الماء، قُطر نافذة كل فتحة منها حوالي عشرين سنتمترا، وكان الماء يُرفع إلى هذه الفتحات بواسطة كيزان مربوطة بسلاسل مثبتة بقضبان النوافذ.
أما طريقة تشغيل السبيل فكانت تجري بواسطة بكرة فوق البئر محمولة على خشبة مربوط بها حبل، وكان بطرف الحبل دلو يرفع به المزملاتي الماء إلى القنوات الموجودة تحت بلاط المزملة فيجري إلى النوافذ القائمة عند فتحات القنوات، وكان طالب الماء يصعد على سلالم موجودة أسفل كل نافذة إلى حيث يجد الماء فيحصل على حاجته بالكوز.
وهكذا كان توفير المياه في بيت المقدس مهمة أساسية من مهمات الولاة والسلاطين المماليك، وقد بذلوا في ذلك عشرات الآلاف من الأموال في سبيل تحقيق الأمن المائي للمدينة المقدسة.
المصدر : الجزيرة
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا نتحمل مسؤولية الأراء الورادة بهذه التعليقات
لا يوجد تعليقات في الوقت الحالي!
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا نتحمل مسؤولية الأراء الورادة بهذه التعليقات